الثلاثاء، يناير ١٥، ٢٠٠٨

إشكالية الوطن والوطنية والمواطنة

د/ يوسف القرضاوى

موقع القراضاوى / 18/10/2007مع الاختصار

فكرة الانتماء إلى الإسلام والى أمة الإسلام ، وإلى دار الإسلام ، التي كانت سائدة في القرون الماضية منذ عصر النبوة ، فعصر الراشدين ، فعصر العباسين والعثمانيين : قد لا تكون مقبولة عند غير المسلمين . على أساس أن أصل هذا الانتماء ديني ، ينطلق من القرآن والسنة .
إن علماء المذاهب المختلفة جميعا ، قرروا :- ان غير المسلمين في المجتمع الاسلامى ، وهم الذين يعبر عنهم فى الاصطلاح الفقهي
( أهل الذمة ) يعدون من ( أهل دار الإسلام ) فهم من ( أهل الدار ) وإن لم يكونوا من أهل الملة ) .
وفى اجتهادي :- أن كلمة ( أهل الدار ) هذه تمثل مفتاحا لحل مشكلة المواطنة لأن معنى أنهم (أهل الدار ) أنهم ليسوا غرباء ولا أجانب ، لأن حقيقة معناها أنهم أهل الوطن ، وهل الوطن إلا الدار أو الديار ؟
وإذا ثبت أنهم أهل الوطن فهم ( مواطنون ) كغيرهم من شركائهم من المسلمين . ولهذا يلزمنا فقها : أن نقرر فكرة المساواة بين أبناء دار الإسلام على أساس مبدأ : لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا . ولا تمييز إلا فيما تقتضيه طبيعة الخلاف الديني .
ولا بد من حذف كلمات ومصطلحات تاريخية من قاموس التعامل المعاصر ، مثل كلمة ( أهل ذمة ) التي لا يقبلها غيرا لمسلمين . فلم يتعبدنا الله بهذه الكلمات ، وقد حذف عمر(رضي الله عنه) ما هو أهم منها ، حين اقتضت المصلحة العليا ذلك ، فحذف كلمة ( جزية ) حين طلب منه ذلك نصارى بني تغلب ، وقالوا : إننا قوم عرب ، ونأنف من كلمة ( جزية ) ، ونريد أن نأخذ ما تأخذ منا باسم ( الصدقة ) ورضي منهم ذلك ، معتبرا أن العبرة بالمسميات والمضامين لا بالأسماء والعناوين .
إن الاشتراك في الوطن يفرض نوعا من الترابط بين المواطنين بعضهم وبعض ، يمكن أن نسميه ( الإخوة الوطنية ) فكل مواطن أخ لمواطنه وهذه الإخوة توجب له من حقوق المعاونة والمناصرة والتكافل ما ستلزمه معنى ( الإخوة ) أي الانتماء إلى أسرة واحدة .
وهناك حساسية عند كثير من المسلمين من إطلاق لفظ إخوة على غير المسلمين ،وكذلك عند تعارض الو لاءات ، وعندهم تخوف من كلمة المواطنة والقومية بسبب مغالاة الآخرين فيها أو ربطها بالعلمانية ويناقش فضيلة الشيخ القرضاوى المسائل الاربعة فيقول :
قد يعترض بعض السلامين على إطلاق الأخوة خارج الإطار الديني .
فليس عندهم إلا أخوة الإيمان ، اى الأخوة الدينية ، ولا اعتراف بأي أخوة سواها .
ودليلهم على ذلك قول الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }[ الحجرات ]
وقوله سبحانه عن المؤمنين : { فأصبحتم بنعمته إخوانا }[ آل عمران – 103 ]
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم " .
ونحن نؤمن بأصالة الأخوة الدينية القائمة على الايمان ، ونرى أنها أعمق أنواع الأخوات . كما عرفنا ذلك فى سيرة الصحابة والمسلمين الأول ، وكيف فاقت هذه الاخوة النسب والدم فى وقائع شتى .
ومع اعترافنا بذلك نؤكد : أن هذه الأخوة على عمقها لا تمنع من وجود أنواع أخر من الأخوات . مثل الأخوة الوطنية أو القومية ، ومثل الأخوة الإنسانية ، ها أنا أسوقه إليك من القرآن الكريم . اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء : { كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون } [ الشعراء - 106 ]
{ كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون .... }[ الشعراء- 123 ،124 ]
{ كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون }[ الشعراء - 141، 142 ]
{كذبت لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون }[ الشعراء - 160، 161]
فكل هؤلاء الأقوام كذبوا رسلهم وكفروا بهم ،ومع هذا عبر القرآن عن علاقة رسولهم بهم بأنه علاقة (الأخوة) "قال لهم أخوهم" .
وذلك لأن هؤلاء الرسل كانوا منهم ،ولم يكونوا أجانب عنهم ،فتربطهم أخوة قومية.
عند تعارض الو لاءات والانتماءات :
فالإنسان في واقع الأمر ليس له انتماء واحد ، فقد تتعدد انتماءات الإنسان باعتبارات شتي ،ولا نجد أي تناقض بينهما.
فالإنسان ينتمي إلي أسرته ، وينتمي إلي قريته ، وينتمي إلي محافظته،وينتمي إلي قطره أو وطنه ، وينتمي إلي أقليمه،وينتمي إلي قارته،وينتمي إلي دينه ،وينتمي إلي أمته (ألكبري المؤسسة علي الدين)،وينتمي إلي الأسرة الإنسانية .ولا حرج في ذلك ولا ضير فهذه الانتماءات غير متعارضة ولا متناقضة ،بل هي تعبر عن حقائق قائمة بالفعل ، والعلاقة فيما بينها علاقة الخاص بالعام ،والأخص بالأعم ،وما بينهما.
إنما تحدث الإشكالية حين يتعارض الانتماء إلي الوطن والانتماء له ، مع انتماءات ولاءات أخري يلتزم بها الإنسان .
وذلك مثل : الانتماء إلى الدين والولاء له . ومثل : الانتماء إلى القوم والولاء لهم . ومثل : الانتماء إلى البشرية والولاء لها .
فأي هذه الو لاءات والانتماءات أولى بالتقديم على غيرها ؟ أعنى : إذا تعارض الولاء للوطن والولاء للدين ، فأيهما يقدم،وبأيهما نضحي؟ الذي يظهر في هذه الحالة أنه في حالة التعارض بين الدين والوطن ، فإن الدين هو المقدم ، لأن الوطن له بديل ، والدين لا بديل له .
ولهذا رأينا الرسول الكريم وأصحابه حين تعارض الدين والوطن : هاجروا في سبيل الله وضحوا بالوطن الذي ضاق بعقيدتهم ،وصادر دعوتهم ، وفتنهم في دينهم وقد بين القرآن الكريم في مفاصلة واضحة وحاسمة : أن دين المسلم أعز عليه ، وأحب إليه من كل شيء سواه ، مما يعتز به الناس ويحرصون عليه ، وذلك في قوله تعالى في سورة التوبة : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } [ التوبة : 24 ] .
وبهذا يتبين بما لا شك فيه : أن دين المسلم المعبر عنه بحب الله ورسوله : يجب أن ترجح كفته على كل الروابط والقيم الأخرى ، بما في ذلك الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن التي يرضونها . وهذه العبارة تعبر عن الأوطان التي رضوها وارتبطوا بها ماديا وعاطفيا
اقتران الوطنية بالعلمانية :
وتحدث المشكلة لدى بعض الإسلاميين ، فتراهم يتحفظون على فكرة ( الوطنية ) انطلاقا من أن ( الوطنية ) مسكونة بـ ( العلمانية ) التي تفصل الدين عن الدولة ، بل عن الحياة . على خلاف ما هو معروف عن شمولية الإسلام ، الذي عرفه الناس من مصادره الأصلية : عقيدة وشريعة ، عبادة ومعاملة ، دعوة ودولة ، دينا ودنيا . وعرفوا : أن الدين هو إحدى الضرورات أو الكليات الخمس التي جاءت بها الشريعة ، التي شرعها الله لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد .
ونقول هنا : إن الوطنية في ذاتها لا تحمل أي مضمون أيديولجى ، لا مضمون ( دينى ) ولا (لا دينى ) ( علماني ) بل هي محايدة ، وقابلة لأن تحمل ، من حق أو باطل .
وليست كل النزاعات الوطنية التي رأيناها بل رأينا نزاعات وطنية مشبعة بالروح السلامية ، مثل : ( وطنية مصطفى كامل ) الذي كان متعاطفا مع دولة الخلافة الإسلامية ، ومثل حركات التحرر الوطني في كثير من الأقطار الإسلامية فقد كانت هذه الحركات التي قامت لمحاربة الاستعمار , وطرده من بلادها ، والحصول على السيادة والحرية : ذات جذور إسلامية ، وحوافز إسلامية ، كما فئ الجزائر وبلاد الشمال الافريقى العربي ، وكثير من البلاد الإسلامية المختلفة ، كما يقودها ويوجهها الزعماء الدينيون في شتى البلدان .
ومثل ذلك : النزاع في القومية ، فليست القومية في ذاتها علمانية ، ولمن دعاة القومية في بعض الأوقات كانوا علمانيين ، ليبراليين أو ماركسيين ، فظن من ظن : أن القومية لابد أن تكون علمانية . وليس من الضروري أبدا أن تكون الوطنية أو القومية علمانية .

الغلو في الوطنية حتى تصبح بديلا عن الدين
وتحدث المشكلة أيضا حين يغلو بعض الوطنيين فى فكرة الوطنية ، أو عاطفة الوطنية ، حيث نرى بعضهم يجعلون الوطن مقابل ( الدين ) أو بديلا عن الدين ، وإن شئت قلت : مقابل (الله ) ، فكما تبدأ الامور ( باسم الله ) تبدأ باسم الوطن ، وكما يقسم الناس بالله ، يقسمون بالوطن ، وكما يعمل الناس لوحه الله ، يعملون لوجه الوطن !!
وكأن الوطن أصبح إلها ، أو وثنا يشركونه مع الله عز وجل . مع أن المسلم قد جعل محياه ومماته كما جعل صلاته ونسكه لله ، كما قال تعالى لرسوله الكريم { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت } [ الأنعام : 162،163] .
والحس الديني عند المسلم يرفض أن يقرن باسم الله اسما آخر ، أو يقسم بأحد أو بشيء مع الله ، أو يعمل عملا لوجه غير وجه الله ، ناهيك أن يفرده .
ولقد رأينا النزعة الوطنية ، حين تمزقت مظلة الخلافة الاسلاميه وانفرط عقد الأمة الواحدة ، والدولة الواحدة ، لتصبح أمما أو أميمات ، أو دولا أو دويلات !! تحاول كل دولة أن تعزز وجودها ( الوطني ) الجديد ، بفلسفة جديدة ، ومفاهيم جديدة ، يراد بها أن تبدل الولاء لله ولرسوله وللأمة المسلمة الكبرى ، لتجعل بدله الولاء للوطن الصغير ، الذي ينبىء عنه علم خاص ، واسم خاص ، وحدود خاصة ، وتنشد له الأشعار ، وتنشأ له الأناشيد ، لتتعلق القلوب به ، وتتجه المشاعر إليه . وأذكر أننا حين كنا تلاميذ بالمدارس الأولية ، كانوا يحفظوننا نشيدا وطنيا حماسيا ، لا أدرى من أنشأه ،وهو يقول :

بلادي بلادي ، فداك دمى وهبت حياتي فدا فاسلمي
غرامك أول ما في الفؤاد ونجواك آخر ما في فمى

وقد سمعت شيخنا الشيخ محمد الغزالي يعلق على هذا النشيد ، وهذا البيت فيقول رحمه الله : فماذا بقى من فؤاد هذا القائل ومن فمه لله خالقه ؟ الوطنية مشروعة ومطلوبة إذا لم تتجه هذا الاتجاه المغالى ، فإن الغلو في كل شيء يفسده ، وقد رأينا الإسلام يحذر أشد التحذير من الغلو فى الدين . وكذلك الغلو في الوطن والوطنية .
ومما يذكر هنا أن أمير الشعراء أحمد شوقي برغم نزعته الإسلامية الواضحة ، وبرغم قصيدته في نعى الخلافة الإسلامية حين ألغيت ، وهى من روائع الشعر الذي أوصى الشباب بحفظه ، أراه أحيانا يبالغ في الوطنية ، مثل قوله :

وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي !
عندما تتحول الوطنية إلى عصبية جاهلية
وتحدث المشكلة كذلك عندما تتحول النزعة الوطنية غالى عصبية جاهلية ، يتجمع فيها أهل الوطن ضد غيرهم ، وينحازون فيها بعضهم لبعض ، ينصر أخاه في الوطن ظالما أو مظلوما ، ويستجيب له إذا دعاه في الحق أو الباطل . على نحو ما قيل في وصف أحد زعماء قبائل العرب : إذا غضب ، غضب له مائة ألف سيف ، لا يسألونه فيم غضب ؟!
وكما وصف أحد الشعراء أبناء قبيلته بقوله :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
فالمصيبة : أن تعين أهلك وقومك على ظلم الآخرين ، وأن تشهد لهم على الآخرين محقين كانوا أم مبطلين ، وأن تقول ما قال أتباع المتنبئين الكذبة من قبائل العرب أيام حروب الردة : كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر .
هكذا تكون العصبية القومية ، وكذلك تكون العصبية الوطنية ، كما رأينا ذلك في النزاعات النازية والفاشية فى أوربا في أوساط القرن العشرين ، من رفع شعارات : ألمانيا فوق الجميع ، وإيطاليا فوق الجميع .
والإسلام يعلم المسلم : أن يدور مع الحق حيث دار ، وأن يقول الحق وإن كان مرا ، وأن يكون قواما بالقسط شهيدا لله ، ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين ، وكذلك لا يجرمه شنآن قوم على ان لا يعدل ، بل يجب أن يقوم بالقسط مع من يحب ومع من يكره . فعدل الله لجميع عباد الله .
ومن هنا أنكر الإسلام العصبية بكل أنواعها ، سواء كانت عصبية قبلية أم عصبية قومية أم عصبية اقليمية أم اى عصبية كانت. روى الإمام مسلم في صحيحه : عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبه ، أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتلته جاهلية "

هناك ٣ تعليقات:

tamtam315 يقول...

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كلامك حق يا دكتور زعفراني ، و ياريت كل الناس تفهم حقيقة الإسلام و تبتعد عن التعصب الأعمى حتى لا يعطوا فرصة لأعداء الإسلام لكي يضعوا الفتنة بين المسلمين و أصحاب العقائد الأخرى

غير معرف يقول...

عاجل وهام ....
تم إعتقال المدون الدكتور إبراهيم الزعفراني صاحب مدونة من الذاكرة والمنسق العام لمدونة يلانفضحهم ....من منزله فجر اليوم لمساندته حملة مناصرة غزة التي أقيمت يوم الجمعة الماضي بشارع 45 بالإسكندرية ....
الجدير بالذكر ان الدكتور الزعفراني أمين عام نقابة الأطباء بالإسكندرية ورئيس لجنة الإغاثة والطواريء بإتحاد الأطباء العرب وهي الجهة التي تدعم حملة المدونيين لفك الحصار عن غزة .... لمزيد من المعلومات
http://www.dahayaa.com/
لزيارة مدونة الزعفراني من الذاكرة
http://zafarany.blogspot.com/

أبو أحمد الحسنات يقول...

فك الله أسرك دكتور إبراهيم