لا أعرف ما اذا كان أحد قد أجري تقييما لتداعيات عبور فلسطينيي غزة للحدود المصرية أم لا لكن الذي أعرفه أن الأصداء الإعلامية علي الأقل جعلتنا مدينين بتقديم اعتذار إلي الشعب الفلسطيني.(1) يوم السبت الماضي(3/1) قتل الإسرائيلييون55 فلسطينيا في غزة. وخلال الايام الثلاثة السابقة قتلوا35 آخرين, وخلال الأشهر السابقة لم تتوقف عمليات القتل اليومية, التي كان نائب وزير الدفاع الإسرائيلي صريحا حين وصفها بـ المحرقة, في استعارة دقيقة لما فعله النازيون باليهود. ليس هذا العام استثنائيا بطبيعة الحال, لأن اليوم الفلسطيني ظل مصبوغا بلون الدم منذ أكثر من قرن من الزمان. فمنذ الهجرة الصهيونية الاولي التي تمت عام1882 والفلسطينيون يقاومون بعناد لا مثيل له احتلال بلدهم ويصدون زحف الغزاة الجدد علي أرضهم.هذه المقاومة العتيدة يسجلها الدكتور أحمد الريماوي في كتابه المسار التاريخي للنضال الوطني الفلسطيني فيتحدث عن تصدي الفلاحين الفلسطينيين في عام1886 للغزاة الذين طردوهم من بلدة الخضيرة, لكي يقيموا مستوطنة بتاح تكفا( معناها الامل) واستمر المسلسل الدامي إلي نهاية الحكم العثماني, وطوال سنوات الانتداب البريطاني الذي استمر ثلاثين عاما من(1917 إلي1948) وهي سنوات التمكين للمشروع الصهيوني انطلاقا من وعد بلفور, التي انتهت باعلان الدولة العبرية التي تحتفل هذا العام بالذكري الستين لتأسيسها.منذ أكثر من مائة عام وأرض فلسطين مخضبة بدم أبنائها الذي ظل يسيل مع استمرار حلقات المحرقة: الصدامات والانتفاضات والثورات والعمليات الفدائية والاستشهادية, والغارات التي كانت المذابح الاخيرة احدي حلقاتها.لايوجد حصر للضحايا الذين سقطوا في المواجهات التي سبقت عام1948, رغم أن الوقائع مذكورة في مختلف المراجع التي أرخت لتلك المرحلة. لكن التقديرات التي يطمئن اليها غطت المرحلة التي أعقبت تأسيس الدولة العبرية. والدكتور سلمان أبو ستة رئيس هيئة أرض فلسطين( مقرها لندن) من أبرز الذين تابعوا هذا الملف. وفي دليل حق العودة الذي أصدره ذكر أن العصابات الاسرائيلية في غاراتها علي الفلسطينيين عام1948 ارتكبت35 مذبحة كبيرة وأكثر من100 حادث قتل جماعي. مما أدي إلي طرد أهالي530 مدينة وقرية, بالاضافة إلي662 ضيعة وقرية صغيرة. وأهالي هذه المدن والقري هم اللاجئون الفلسطينيون اليوم ـ الذين يقدر عددهم بستة ملايين و100 ألف نسمة( احصاء عام2003) ـ وهؤلاء يمثلون ثلثي الشعب الفلسطيني البالغ عدده تسعة ملايين نسمة, طبقا لاحصاء ذلك العام.في تقدير الدكتور أبوستة انه بالاضافة إلي الذين شردوا وطردوا من ديارهم, فان حوالي مليون فلسطيني علي الاقل أصابهم الاحتلال الاسرائيلي اصابة مباشرة, وهم مجموع الذين قتلوا وجرحوا واعتقلوا. وفي حرب عام48 وحدها قتل12 ألف فلسطيني, ووضع25 ألفا في معسكرات الاعتقال( مجموع المصريين الذين قتلوا في تلك الحرب1191 فردا من بينهم200 متطوع, كما يذكر اللواء دكتور إبراهيم شكيب في كتابه عن حرب48) أما في الوقت الراهن ففي السجون الاسرائيلية11 ألف معتقل, وتشير البيانات الاسرائيلية إلي أن40% من الشبان الفلسطينيين في الضفة وغزة تعرضوا للاعتقال.ولاينبغي الاستهانة برقم المليون فلسطيني الذين طالتهم آلة الحرب والقمع الاسرائيلية لانهم بالنسبة لعدد السكان, يعادلون7 ملايين مصري أو30 مليون أمريكي.(2) خلال القرن المنصرم تعرض الفلسطينيون لثاني أكبر عملية إبادة في التاريخ الانساني, الأولي كان ضحيتها الامم والشعوب الهندية في القارة الأمريكية, التي تشير المراجع التاريخية إلي أن عددهم في بداية القرن السادس عشر كان112 مليون نسمة, لم يبق منهم في بداية القرن العشرين سوي ربع مليون فقط.وخلال القرون الأربعة استطاع المهاجرون البيض القادمون من انجلترا واستوطنوا تلك البلاد الشاسعة إبادة400 شعب وقبيلة وامة. وقاموا لاول مرة في التاريخ باستبدال شعب بشعب آخر, وإحلال ثقافة محل ثقافة أخري, علي النحو الذي يسجله مفصلا وموثقا كتاب الباحث الفلسطيني منير العكش أمريكا والابادات الجماعية.المثير والمدهش في الكتاب ليس فقط أنه حافل بالشهادات المروعة التي تروي كيفية تنفيذ تلك الجريمة البشعة, ولكن أن الصورة التي رسمها تبدو وكأنها الاصل والنموذج الذي طبقته إسرائيل علي أرض فلسطين.لقد كانت القارة الأمريكية بالنسبة للمهاجرين الانجليز هي أرض الميعاد, وهو نفس ما تذرعت به إسرائيل, ومن البداية اعتبروا أنفسهم عبرانيين, حتي ان العبرية واللاتينية ـ وليس الانجليزية ـ كانت لغة التعليم في جامعة هارفارد عند تأسيسها في عام1936. وشريعة موسي كانت القانون الذي أرادوا تبنيه. كما ان العبرية كانت اللغة الرسمية لابناء المستوطنات الثلاث عشرة التي أقامها الغزاة البيض علي ساحل الاطلنطي, وهؤلاء المستوطنون هم نواة جيش الابادة الذي لم يتوقف عن استئصال أصحاب الارض بكل الوسائل التي طبقت لاحقا علي أرض فلسطين, من القتل والطرد والحصار والتجويع, إلي تسميم المياه والماشية وتدمير الزراعات وإحراق المحاصيل( يذكر المؤلف أنه في احدي الغارات أتلف المستوطنون الانجليز كمية من الذرة كافية لإطعام4000 انسان لمدة سنة كاملة).من مفارقات الاقدار وسخرياتها أن اتفاقيات السلام التي بلغ عددها120 اتفاقية كانت الكمائن التي نصبها المستوطنون الانجليز لتخدير الشعوب والقبائل الهندية قبل الانقضاض عليها واستئصالها, وتبلغ تلك المفارقات ذروتها حين نعرف ان ما تبقي الآن من تلك الامم الهندية العظيمة لم يزد علي كيان يقول الامريكيون انه الممثل الشرعي(!) للقبائل المعترف بها, وهو يحمل اسم مكتب الشئون الهندية, ويعتبره المؤلف أشبه بالسلطة الوطنية الهندية, ويفاجئنا بأن تلك السلطة فرع تابع لوزارة الداخلية الأمريكية.هذا التشابه المذهل بين التجربتين الهندية والفلسطينية حاضر في وعي النشطاء من سلالة الشعوب التي أبيدت, ولايفعلون الآن أكثر من البكاء علي الاطلال ومحاولة تجميع ماتبقي من ثقافتهم التي أبيدت, وقد نقل المؤلف عن أحدهم, اسمه مايكل هولي ايجل من بقايا شعب سو, قوله: ان تاريخنا مكتوب بالحبر الابيض.. وماتعرضنا له هو واحدة من الإبادات الكثيرة التي سيواجهها الفلسطينيون( لأن) جلادنا المقدس واحد.(3) هذا الاستنتاج ليس دقيقا. فالمقدمات اذا ما تشابهت أو تطابقت, فالمآلات اختلفت, ذلك ان الشعوب الهندية انكسرت وتحولت إلي أثر بعد عين, في حين ان الشعب الفلسطيني لايزال يدهشنا بصموده ومقاومته واصراره علي رفض الانكسار والتسليم. ومن ثم استحق أن يطلق عليه شعب الجبارين وهو الوصف الذي لم يكف أبو عمار عن ترديده بين الحين والآخر.يزيد من تقديرنا لصمود ونضال الشعب الفلسطيني أن معركته أعقد واكثر شراسة من معركة الهنود الحمر. علي الأقل فالهنود كانوا يواجهون قوة محلية تمثلت في ميليشيات المستوطنين الانجليز. أما الفلسطينيون فابادتهم وإذلالهم اشتركت فيه مع إسرائيل قوي دولية نافذة واقليمية متواطئة, وقوي محلية مهزومة, ان شئت فقل إن الهنود واجهوا بصدورهم العارية عدوا واحدا علي جبهة واحدة, أما الفلسطينيون فانهم ما برحوا يتلقون السهام في صدورهم وظهورهم, وكتب عليهم أن يواجهوا التحدي علي جبهات متعددة, في حين انحازت أغلبيتهم إلي المقاومة واعتصمت جماهيرهم بالصمود. طوال مراحل نضالهم ظلت فصائل المقاومة متمسكة بحق العودة وتحرير أرضهم من الاحتلال واقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس. وهي العناوين التي رفعها ياسر عرفات عام1969, والتي انحاز اليها في مفاوضاته, وبسببها حوصر وقتل, وهي ذاتها العناوين التي استمرت في رفعها كتائب المقاومة الأخري وفي مقدمتها حماس والجهاد وكتائب الناصر صلاح الدين, وبسببها حوصرت غزة وتتواصل علميات القتل والتصفية فيها يوما بعد يوم.(4) هذا السجل المشرف الذي تمتلئ صفحاته بآيات التضحية والفداء وبالاصرار الخرافي علي المقاومة والصمود, سقط من ذاكرة البعض في مصر عقب ماجري علي الحدود. فقد استنكر هولاء الانفجار الشعبي الذي عبر عنه الصامدون الصابرون في غزة بعبورهم للحدود ومحاولة توفير احتياجاتهم الحياتية من سيناء, اعتبره أولئك البعض غزوا ومؤامرة وتهديدا لأمن مصر وتعطيلا للتنمية فيها, وتلاعبا بالمصير المصري من قبل قيادات حماس, وإلي جانب التنديد والتحريض والتخويف ذهب آخرون إلي حد اهانة الفلسطينيين وتجريحهم, حين وصفوهم بأنهم معتدون ومتسللون أضمروا الخراب, وأنهم بلاء كتب علي مصر أن تتحمله, وهذا الكلام ورد في تعليقات كتاب كبار, وهو الأمر الذي بدا جارحا لكرامة الفلسطينيين.ما يثير الانتباه ان الاصوات التي تبنت ذلك الموقف المندد بالفلسطينيين ونضالهم, هي ذاتها التي دأبت علي الازدراء بمقومات الانتماء المصري بشقيه العربي والاسلامي, وهي ذاتها التي تبنت دعوات الاستسلام, والاستتباع والانكفاء علي الذات, هي أصوات معسكر الهزيمة الذي فقد الثقة في نفسه وأمته, وتنكر لتاريخه وهويته, لذلك لعلي لا أبالغ اذا قلت ان هؤلاء لايكرهون الفلسطينيين وحدهم ولكنهم يكرهون جلودهم وأمتهم كلها.