الثلاثاء، أغسطس ٢١، ٢٠٠٧

وفى ذلك فليتنافس المتنافسون

في أثناء سجننا في أبو زعبل عام 1982 بزنزانة 11 على 3 وكانت تحوى 25 فردا وفوجئنا بإدارة السجن تنقل عنبر 4 إلينا وتكدست الزنازين وأضيف الي زنزانتنا عشرون فردا من المسجونين السياسيين فأصبح في الزنزانة عدد 45 فردا وقد ضاق بنا المكان وكنت
مسئولا عن الزنزانة وانشغلنا بإعادة توزيع الأماكن وتحديد المساحات لكل فرد وأثناء ذلك لاحظت أن احد الذين حضروا الي زنزانتنا
منذ دخوله بدا ينهمك في رص الكراتين ومهمات الأفراد حتى تأخذ اقل حيز ممكن من المساحة .وبعد انتهائه من ذلك رايته يذهب الي
دورات المياه الثلاث ويقوم بتنظيفها مراحيض وجدران وأحواض ...وفور الانتهاء قام باختيار مكان نومه في مدخل دورات المياه وهو أسوء مكان حيث يبتل بالماء أثناء خروجنا من دورات المياه وكذلك الرائحة الكريهة التي تنبعث من دورات المياه وكذلك عرضة أن يداس أثناء الدخول والخروج .
وعندما جاء وقت إطفاء الأنوار . إذا به يقول : ياجماعة الي حيصوم بكرة يرفع أيده علشان احضر له السحور واصحيه .

كانت عيني تراقب هذا الشاب النشط الخدوم الذي لم يسترح لحظة منذ دخوله الزنزانة رغم انشغالي بتوزيع الأماكن علي أفراد الزنزانة .وبعد أن نام الجميع طلبته لنتحدث بجوار حوض المياه لعدم وجود أماكن وحتى لا نقلق نوم الزملاء تعرفت عليه هو د/ عبد
الرحمن البنا طبيب أسنان من جنوب القاهرة مواليد 1953 شاب ذو خلق عالي وعلامات الخجل والحياء مرتسمة علي وجهه . قلت له : يا أخي عبد الرحمن لقد تابعتك منذ دخولك الزنزانة رايتك في حركة وخدمة دائمة لن استطيع أن أباريك فيها ولكني ابغي أن
احصل علي اجر من الله مثل أجرك فإما أن تشاركني معك في أي عمل تقوم به وكذلك نتقاسم النوم في هذا المكان ؟ أنت ليلة وأنا ليلة وإلا ستضطرني أن أقف في طريقك فلقد تركت أهلي وأولادي ورائي مثلك رجاء ثواب الله وليس من المعقول أن تكتسح كل هذا الثواب وأنا أتفرج عليك فانا لست في غني عن أي حسنة وليست عندي من الإمكانيات أن أسابقك أو أسير بسرعتك وبعد إلحاح وافق متفضلا أن امسك بشباك سيارته السريعة وأنا اركب بدراجتي ليساعدني علي السير إلي الله بسرعته .وكان محبوبا من الجميع .وكان الشيخ محمود عيد – يأخذ طربوش الشيخ حافظ سلامة ( وكانا معنا في نفس الزنزانة ) ويضع الطربوش علي رأس د/ عبد الرحمن البنا ويقول ياشباب الي ماشفش أ / حسن البنا ويحب يبص عليه اهوه ( ويشير إلي د/ عبد الرحمن البنا وهو يرتدي الطربوش)
قصة وفاء

حكي لي أ/حمدي عبد الحليم انه في عام 1981 كان له ابن خاله هو فتحي نعمان في الاربعينيات من العمر متزوج وله ولد وابنه تشارف العشرين عاما . وكان قد استقال من شركة ستيا وكان يسكن في منطقة غيط العنب وعثر علي عمل في محل متواضع لبيع بعض الادوات المنزلية يملكه رجل اسمه ( عبد الرحمن عبد الصمد)بمنطقة غيط الصعيدي .
وكان فتحي هذا يذهب الي عمله مستخدما دراجة عادية وبعد عام من عمله صدمته سيارة اثناء ذهابه الي عمله فمات علي اثرها ونقل الي مشرحة كوم الشقافة .يحكي أ/ حمدي انه صارع مع اخوه/ رشاد للقيام بواجبات الدفن لابن خالتهم فوجدوا معهم رجل سمح يرتدى جلبابا و يلازم جثمان ابن خالتهم في كل مكان قام بشراء الكفن واستخراج تصريح الدفن ثم الدفن والعزاء الليلي وعند سوالهم عنه عرفوا انه الرجل الذي كان يعمل ابن خالتهم فتحي في دكانه المتواضع فاكبروا فيه هذا الموقف من خلق ووفاء ورجولة .
وفي اليوم التالي اتفق أ/ حمدي مع اخيه رشاد علي الاشتراك في توفير مبلغ شهري لاسرة ابن خالتهم المتوفي وعندما ذهب ليعطي أرملته المبلغ ابلغته ان الحاج عبد الرحمن عبد الصمد الذي كان يعمل عنده زوجها اعطاها مبلغ من المال واخبرها ان راتب زوجها سوف يستمر الي ان يتزوج اولادها او يصبحوا قادرين علي الكسب وزاد اعجاب أ /حمدي بهذا الرجل الوفي الكريم .
وفي عام 1982 تقدم احد الشباب للزواج من ابنة فتحي ( رحمه الله )وجلس أ /حمدي الي اسرة ابن خالته لترتيب شراء اثاث العروس فاخبرته ان الحاج عبد الرحمن ابلغها بانه اشتري لابنة فتحي حجرة نوم من دمياط مساوية تماما لحجرة النوم التي اشتراها لابنته،فكان هذا هو الموقف الثالث لهذا الرجل الذي جاء من زمان غير هذا الزمان .
يكمل أ/ حمدي عبد الحليم ويقول في نهاية 1984 سافر للحج واثناء تواجده في الحرم ذهب للقاء بعض الاخوان المسلمون فوجئ بالحاج /عبد الرحمن عبد الصمد يجلس وسط الاخوان المسلمين ساعتها عرف هويته فازدادت سعادته به وحين الانصراف من الحرم سار الي جواره ساله الاتتذ كرني يا حاج عبد الرحمن فقال : ( اسف انا مش متذكرك حضرتك مين ) قلت له انا ابن خالة فتحي ( الله يرحمه )فرايت الدموع تنهمر من عينيه وعندما اخرج منديلا من جيبه يجفف به دمعته سقط ايصال الهدي من جيبه فرايت الايصال مكتوب عليه اسم ابن خالتي/ فتحي نعمان ( رحمة الله عليه) وعرفت انه خرج هذا العام للحج عن ابن خالتي ، فتفوق الرجل بهذا الموقف على خلق الوفاء الذى أعرفه واحسست اني امام رجل من معدن المسلمين الاوائل الذين كنا نقرا عنهم في كتب السيرة والتاريخ الاسلامي
وبعدعودتي من الحج ذهبت الي خالتي ( ام فتحي ) لاخبرها ان ابنها فتحي (رحمة الله عليه )قد حج معي هذا العام وحين حكيت لها ما حدث كادت تطير من الفرحة بالثواب الذي اهدي الي ولدها بعد وفاته ، وبالرجل الوفي الذي لايزال يعيش مع ولدها رحمه الله
ملحمة الوفاء.

ملحوظة :
اوردت هذه الاحداث عن رجل من عصرنا لازال حيا بيننا الي اليوم من منطقة الحضرة بالاسكندرية وهو رجل بسيط لايري لنفسه اي فضل فهو عضو عادي في جماعة الاخوان المسلمين قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (الخير في وفي امتي الي يوم القيامة)
هذا الرجل الذي يتمسك بدينه وعلاقته بربه وبجماعته التي خاض من خلالها المعارك مع اخوانه الفدائين من جماعة الاخوان المسلمين عام -1948 دفاعا عن ارض فلسطين ضمن كتائب اعدها الامام حسن البنا رحمه الله ليحقق معني الجهاد سبيلنا في صورته الصحيحة ويرسخ في نفوس المسلمين وحدة الدم ووحدة الاخوة الاسلامية دفاعا عن الارض والعرض والدم والدين .

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

استاذي واخي الحبيب / د ابراهيم
جزاك الله عني خير الجزاء ...
اليوم فقط ... نبهني احد ابنائي لقراءة ... ما كتبته عن ذكريات اعتقال ... سبتمبر 1981 والتي مضي عليها مايزيد عن ربع القرن ... ولكن هذه الايام التي عشتها مع اخوان الاسكندرية ... وانت في القلب منهم ...
شباب الطهر والنقاء شباب الحماسة والامل والتفاؤل والمرح ... الشباب الذي لا يكف عن الحركة والنشاط ..وادخال السرور والسعادة علي جميع القلوب ... شباب يلتفون حولك .. ويبدعون ...في دروس اصول الفقه ... التي كنا نتلقاها علي يديك ... باحدث الوسائل التعليمية ... المتاحة لنا في ذلك المكان ... الذي يخطئ كثير من الناس ويسمونه ( سجنا) ... وهو المكان الذي ننعم فيه بنعمة الاخوة والحب في الله .. كأننا نعيش في عالم اقرب مايكون للمدينة الفاضلة .. التي تمناها الفلاسفة ...
يا استاذي الفاضل :
لقد اخجلتني بحديثك عني .. والعجيب في ذلك .. هذا التواضع والادب الجم ..
احقا تذكر لي هذه المواقف .. واين تلك من مواقفكم ...ومواقف اخوانكم من اخوان الاسكندرية ... وسبحان الله ..كنت اسائل نفسي دائما .. كيف يمكن لنا ان نتحمل هذا السجن لو لم يكن معنا هؤلاء الاخوان ...
اتذكر المسرح الذي اقيم في فناء السجن لتقدم عليه فقرات ممهرجان الاحتفال بعيد الفطر ... اتذكر رمضان ... والبهجة التي ادخلتموها علي جميع المعتقلين وكانوا يزيدون عن الف معتقل من جميع الاتجاهات .. اتذكر الدورة الرياضية في كرة القدم التي اشترك فيها جميع الاتجاهات ... وفاز فيها فريق الاخوان علي فريق السلفيين ... وكان هذا اللقاء لا يقل بحال من الاحوال عن مباراة الاهلي والزمالك ...
اتذكر لوحات التهنئة التي علقت علي الحوائط ...باستخدام المقص والورق علي خلفية من البطاطين ( بديلا لليفط القماشية ) ..
يعلم الله وحده ... كم احببتك في الله واحببت اخوان الاسكندرية حبا .. ادعو الله تبارك وتعالي ان يجمعنا جميعا في مستقر رحمنه ...
اخي الحبيب / اعتذر لك ... عما كتبته عني ... فهكذا العظماءمثلكم ينسون ما يقدمونه من عطاء فيض كالبحر .. ويتذكرون قطرة مياه ... ولكن هكذا عهدنا بكم ... فماذا اقول ؟؟
جمعني الله واياكم في مستقر رحمته .. آمين